استأنفت إدارة جامعة كاليفورنيا في بيركلي مساقَ الدراسات الإثنية وصف “فلسطين من منظور استيطاني استعماري” بعد قرار إداري سابق بالغاءه، بعد حملة احتجاجية من قبل ٤٣ مؤسسة صهيونية خارجية، وذلك في مثالٍ يعكسُ معاملةَ فلسطين في الوسط الأكاديمي، التي تواجه دائماً مثل هذه الحملات الممنهجة الهادفة منع التعامل مع فلسطين كموضوع أكاديمي خارج عن الأسطورة الصهيونية ومتطلبات الانصياع لها كنقطة انطلاق مركزي لاي بحث.
من هذا المنطلق الاكاديمي الممنهج تصبح فلسطين ويتم التعامل معها كأنها غير موجودة، وتوجد فقط عندما نتطرق الى إسرائيل وما تعانيه إسرائيل. وعلى هذا الأساس ومن هذا المنظار المجحف تتعامل إدارة معظم الجامعات مع موضوعة فلسطين من منطلق السيطرة، وفرض نوع من الاحتلال الفكري الذي يمنع نقض أي جزيئة من نسيج الأسطورة الصهيونية في المجال الاكاديمي. ولذلك فان سرد الرواية الفلسطينية في الوسط الأكاديمي، في الولايات المتحدة الاميركية، أصبح يمرُّ عبر متاهة من أدوات الرقابة الرسمية، وغير الرسمية، التي تنظم طريقة تناول الموضوع، حيث اصبح الوسط الأكاديمي، إلى حدٍ كبير، صورةً مصغرة عن المجتمع الأكبر، ما يعني أن معاملة فلسطين والفلسطينيين، وأصحاب البشرة الملونة بشكل عام، في الوسط الأكاديمي يجب ان تنسجم ومعاملتهم على المستوى الوطني في الولايات المتحدة الاميركية.
الأهم من ذلك هو أن الرواية الإسرائيلية، والشواغل الأمنية، والصحة النفسية، والهوية، والادعاءات الإسرائيلية بملكية الارض، تُقبَل دون تمحيص، وتحظى بدعمٍ واسع من المستوى الإداري الأكاديمي، كما تُستَخدمُ احياناً كمؤشرٍ للتعبير عن القلق بشأن التنمية في المنطقة، فما يناسب إسرائيل لا بد وأن يناسب كلَّ شخص في الولايات المتحدة الاميركية، ويجب أن يُفرَضَ على الفلسطينيين بالتأكيد، بل إن ما يناسب إسرائيل، لا بد وأن يناسب الوسط الأكاديمي أيضًا.
ومما يزيد من تفاقم الوضع في الجامعات الامريكية، ان نظم التعين والتقدم المهني مرتبطة ايضاً بملف النشاط الأكاديمي، والحصول على تمويل إضافي لكتابة الأبحاث والنشر، وكل ذلك يشكل نسيج سيطرة وقمع فكري ممنهج داخل الحرم الجامعي.
إن سردَ الرواية الفلسطينية في الوسط الأكاديمي مهمةٌ شاقة، وعمليةٌ تعاكس المجتمع الأمريكي بعمومه، فالمرشحان الرئاسيان الحاليان تهافتا في وقت سابق على التعبير عن دعمهما لإسرائيل أمام المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الاميركية الإسرائيلية (آيباك) في واشنطن العاصمة، حتى كاد المرءُ يظن أنهما مترشحان لرئاسة إسرائيل وليس الولايات المتحدة. والاسوأ من ذلك، انه وخلال نقاش بيان الحزب الديمقراطي، رفض مؤتمر الحزب إدراجَ كلمة الاحتلال في النص الختامي المعتمد، فحجم الاختلاف بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأن إسرائيل ضئيلٌ جدًا، ولا يكاد يذكر، ونفس المبدأ المعتمد في الأحزاب السياسية نجده راسخاً في إدارة الجامعات عامةً، ومعظم قاعات المحاضرات.
يتحدد نطاق التعامل المقبول مع موضوع فلسطين في الوسط الأكاديمي، كما في الأحزاب السياسية الوطنية، وفقًا لأجندة (ايباك) وعملاء الصهيونية المحليين، فعند الحديث عن البرامج الممولة من الجامعة، والعلاقات المؤسسية، والنظرة الأكاديمية، توضع الأجندة بما يراعي الأولويات والمصالح الإسرائيلية، وعلى المرء أن يعي ارتباط الجامعات من كل حدبٍ وصوب بإسرائيل وبالصهيونية، وهذا أمر موثقٌ في عددٍ لا يُحصى من برامج الدراسة في الخارج، وزيارات أعضاء الهيئات التدريسية والطلاب، والتبادل الأكاديمي على اختلاف أنواعه، والزيارات المستمرة والجولات المدفوعة الأجر، التي يقوم بها مسؤولون من الجامعات الأمريكية إلى الجامعات والمراكز العسكرية والمستوطنات والمدن الإسرائيلية. ويمتد هذا الترابط ليشمل أقسام الشرطة والامن الجامعي، والرحلات المدفوعة الرسوم بالكامل، والجولات المفروضة على الزائرين بهدف زيادة الوعي الإسرائيلي بالاحتياجات الجامعية، ولرؤية الفلسطينيين من المنظور الاسرائيلي.
تتطابق هنا علاقة الوسط الأكاديمي بفلسطين مع المشهد السياسي الأوسع، وتُبنى على أسسٍ واحدة، فمصالح اسرائيل ومخاوفها وشواغلها الأمنية هي موضع تركيز هذا الوسط، الذي يصوَّرُ الفلسطينيين كخصمٍ يعكف باستمرار على التشويش على التعايش السلمي والطبيعي في فلسطين وفي الجامعات. فمن وجهة نظرهم، فان الفلسطينيين هم “الدخلاء” على الرواية الإسرائيلية المهيمنة في الجامعات، فهل نعرف الفلسطينيين وكيف يُصوَّرون في وعينا الجماعي؟ وهل نهتم بالفلسطينيين أم أننا لا نعيرهم اهتمامًا إلا في معرض الاستجابة للمخاوف الصهيونية في الجامعة؟
الأهم من ذلك أن قيادة الجامعة وإدارييها نشأوا سياسيًا ومعرفيًا على النظرة والرواية الإسرائيلية، لذلك فمن البديهي أن يصبح أي شاغلٍ يشغل إسرائيل هو بمثابة دعوةٍ إلى العمل على معالجته. ومن الامثلة على ذلك، تعاملُ إداريي الجامعة مع حركة المقاطعة الطلابية، وتعديل القواعد واللوائح بهدف تجريم العمل النضالي المرتبط بها على مستوى الجامعة. وفي مستوى أبعد من ذلك، يُنسق إداريو الجامعة تحركاتهم مع ممثل حكومة إسرائيل، (وهي بلد أجنبي)، للوقوف في وجه مصالح طلابهم وأعضاء هيئاتهم التدريسية وحقوقهم الدستورية.
لقد جابه مساقُ وصف “فلسطين من منظور استعماري استيطاني” الذي يُدرًس ضمن برنامج التعليم الديمقراطي في جامعة كاليفورنيا في بركلي، والذي يتيح للطلاب اقتراح وتدريس دورس لزملائهم بإشراف عضو هيئة تدريس، حواجزَ التفتيش المؤسسية التي وضعتها إسرائيل، والتي حُشدت بسرعة “لتصحيح” حدود البحث الأكاديمي، حسب زعمهم، فأي عملية بحث أكاديمي من منظورهم، ووفقًا للحدود التي ترسمها حواجز التفتيش، يجب أن تركز على إسرائيل، وأن تقع ضمن مجموعة الأولويات التي يحددها ويقرها حُراس الرواية الصهيونية المحليون. ونتيجةً لذلك، بات الإداريون في الوسط الأكاديمي كما لو كانوا ضباطًا في وزارة الخارجية، يحرسون وينظمون أطرَ التعامل مع فلسطين، وإجهاض كلَّ ما هو خارج الإطار المقبول.
إن عدد المساقات التعليمية الاكاديمية التي تتعاطى مع فلسطين “كفلسطين”، وتركزَ على تجربة الفلسطينيين، لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين، وذلك على المستوى الوطني في الولايات المتحدة الاميركية، وهذا العدد المذكور يتضمن المساقات التعليمية الأخرى التي تكون فيها فلسطين جزءاً من ذلك المساق التعليمي.
إن شحَّ التعاطي مع فلسطين والفلسطينيين يجسِّد العراقيل وحواجز التفتيش المؤسسية الموضوعة لتطهير المناهج التعليمية من فلسطين، كموضوع دراسي، والتركيز على إسرائيل.
إن وجود حواجز تفتيش مؤسسية وإدارية على المحتوى والمساقات المتعلقة بفلسطين، هو تحديدًا ما مكَّن عميدة في مؤسسة بحثية عريقة من “تعليق” مساقٍ أكاديمي حول فلسطين، أعدَّه أحد الطلاب ضمن برنامج التعليم الديمقراطي في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي، حيث حُشدت كتلة خارجية مكونة من 43 مجموعةٍ موالية لاسرائيل، مدفوعة أيديولوجيًا ومتطرفة، للضغط على مجموعة من الإداريين ممن هم ابدوا استعدادا لتلبية طلباتهم، لالغاء هذا المساق تحت ذريعة عدم اتباع الاجراءات الإدارية المطلوبة.
إن الادعاء المزعوم بالإخلال في اتباع الإجراءات عند تقديم هذا المساق تم كحالة استثنائية، حيث لم يواجه أي مساق تعليمي آخر سابقا، ضمن برنامج التعليم الديمقراطي، في هذا الصرح العلمي الكبير، بمثل هذا التدخل الإداري الخفي.
لقد أصبحت المساقات االتعليمية المتعلقة بفلسطين تخضع للوائح، وذلك من خلال تدخلات استثنائية إدارية وسياسية تناقض مبادئ الحرية الأكاديمية والبحث الأكاديمي، كما تنشيء الإدارة الأكاديمية حواجز التفتيش الفكرية، والإجرائية، للحيلولة دون دراسة الرواية الفلسطينية (وفق شروطها)، فاذا كان الفلسطينيون يعانون من الاحتلال المباشر في فلسطين فان الأكاديميين الفلسطينيين ومن ساندهم في أمريكا يعانون من حملات ممنهجة، هدفها انتاج احتلال وقمع فكري ليمنع البحث في تاريخ وحاضر فلسطين، وللحيلولة دون طرح أسئلة لا بد منها حول علاقة أمريكا بإسرائيل في داخل وخارج الجامعة على السواء.