التاريخ هو عبارة عن كتاب قابل للتدقيق والتعديل باستمرار و اعادة التحرير من قبل العديد من الكتاب والمصالح الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والعرقية وبالأخص الدينية ذات التعارض مع التاريخ الوطني المعتمد. كأكاديميين، نحن مدربين على فحص التاريخ من وجهات نظر متعددة واتباع كل المصادر المتاحة قبل الوصول الى حكم قاطع في موضوع معين او قضية ما.
بهذا المعنى فالتاريخ او بالأحرى كتابة التاريخ تقدم التحدي النهائي لان التعاطي مع هذا الاشكال في الموضوع يتوقف على مجموعة متنوعة من القيود الذاتية التي تحد من قدرة الوصول إلى المرحلة النهائية في الموضوع التي ستمثل في المستقبل بداية لمؤرخ وكاتب اخر يعيد النظر فيما كتب.
على سبيل المثال لنبدأ بكيفية تمييز الوقت والاستخدام الاساسي للتقويم والذي يفترض أن يكون فعلا محايد ولكن في الواقع هو بعيد من ذلك كل البعد، التقويم المعتمد مشروع مرتبط بتصور ثقافي محدود وممنهج للغاية. هل نحن في عام 2016؟ ماهي المقاييس أو مجموعة المعايير المستعملة للوصول الى هذا التحديد؟
تصحيح التاريخ و استعمال تقويم هو فعل غير موضوعي وغير محايد اطلاقا لا يمثل التحديد الموضوعي لمرور الوقت.
في السياق المعاصر لقد تم تمييز التاريخ بوقوع الهجوم الارهابي في احداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 حدث مهم و رهيب تسبب في موت 2296 اشخاص ابرياء. لقد تمت مشاهدة الهجمات الارهابية بشكل مباشر و غير مباشر من قبل العديد من الناس عبر العالم و يتذكرون ذلك كل سنة. و مع ذلك و من خلال منظور عالمي فان تمييز هذا الفعل الرهيب والرمز الأساسي لكل العالم دون البحث والنظرعن إمكانية سرد احداث أخرى موازية في أماكن مختلفة في العالم. هنا الحادي عشر اصبح حدث مميز لقبل و بعد الحدث لا يختلف عن كيفية سرد التقويم الغريغوري الى قبل وبعد ولادة المسيح، ومع محبتي واعتقادي بالمسيح الا انه وبالتأكيد لا يعتبرعلامة عالمية اطلاقا على الرغم من استخدامه الواسع.
منذ مدة قريبة سافرت إلى سراييفو، البوسنة، كانت قضية وضع العلامات ومحو التاريخ في ذهني طوال فترة الزيارة. بالنسبة للبوسنة، عملية صياغة التاريخ وسرد الإبادة الجماعية، وعلى وجه الخصوص، مذبحة سربرنيتشا، التي شهدت ذبح 8373 مدني مسلم بوسني في يومين، 11-13 يوليو، 1995، وتحت حماية الامم المتحدة. لقد تم ارتكاب الإبادة الجماعية البوسنية من قبل الجيش الصربي في جمهورية صربسكا (VRS) تحت قيادة الجنرال راتكو ملاديتش، الذي أودى بحياة حوالي 100000 من المدنيين، شهد الاغتصاب الممنهج للنساء 12000-20000 من مسلمي البوسنة وتطهيرها عرقيا وتشريد 2.2 مليون شخص معظمهم من مسلمي البوسنة. الأهم من ذلك، ان جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت ضد السكان المسلمين البوسنيين شهدت من قبل سكان البلاد والمجتمع الدولي على حد سواء. وهنا، لا بد من طرح السؤال، لماذا لم يتم وضع علامة تاريخية على الإبادة الجماعية البوسنية ؟ لماذا هي خاضعة للمحو و الحذف من المراجع كما لو أنها لم تحدث؟
اذا فعلا تم تمييز و تذكر الهجمات الواسعة و الخسائر البشرية حينئذ فمن المؤكد ان الابادة الجماعية مع هجمات متعددة خلال فترة اربع سنوات و مجازر لا تعد و لا تحصى ينبغي ان تكون نقطة ثابتة في التاريخ المعاصر. بقدر الأرقام، كانت الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا ما يقرب من ثلاثة أضعاف وفيات احداث سبتمبر الحادي عشروتستحق بالتأكيد أن نتذكرها. أنا لا اموقع عملا واحدا شائنا مقابل آخر، ولا هو محاولة لقياس الذين يعانون أكثر. بل أنا اقوم بتفسير كيف تم تمييز و عدم تمييز التاريخ و كذلك محو بعض البشر من الذاكرة العالمية.
لماذا تمييز هذا التاريخ قبل و بعد احداث الحادي عشر و لكن ليس قبل و بعد الإبادة الجماعية البوسنية؟ يمكن أن تكون الخلفية الدينية للضحايا هي السبب وعلى هذا الأساس ترشيد المحو وجعله خاتمة ضائعة، كما لو أنه لم يحدث على الإطلاق؟
وهناك حالة مماثلة يمكن أن تكون مطروحة من طرف العراقيين، الذين عاشوا الصدمة وحملة الرعب من خلال غزو والولايات المتحدة والتصميم على تغيير النظام لسبب امريكي بحت. والغزو الامريكي الذي تسبب ولا يزال يسبب في قتل مئات الآلاف ويستمر دون توقف حتى يومنا هذا ولا يسرد. هنا لنا وقفة بالنسبة للعراقيين ومدينة بغداد بالاخص، يتم تمييز التاريخ في بغداد لكل من هو جاهل بتاريخ هذه المدينة العريقة بتدمير المغول لها عام 1258 والان المنهجية التاريخية تقارنه بغزو الولايات المتحدة عام 2003. في الواقع، الأرقام الدقيقة لعدد القتلى العراقيين من عام 2003 حتى الان غير معروفة وجهد كلي من قبل الولايات المتحدة قائم على قدم وساق للتشويش وتقليل الإبلاغ عن سقوط ضحايا من المدنيين وعدم حصرهم في ديون موثق. لماذا الوفيات العراقية التي تسببها الولايات المتحدة والقوات المتحالفة لم يتم تمييزها ولا هي محسوبة في السجلات التاريخية كما لو أنها لم تحدث ولم تكن موجودة من قبل موتهم؟ لماذا لا يكون لدينا محاسبة لتاريخ العراق قبل وبعد الغزو؟
في الواقع، التاريخ يخضع لديناميكيات السلطة وميازين القوة وهو مكتوب ليعكس سرد رواية المنتصر أو أولئك الذين لديهم وسائل لإنتاج المعرفة حول هذا الموضوع. التفسير والتعامل مع ما هو مكتوب ويؤثر بالفعل بصياغة ما سيكتب بالمستقبل. نقطة مهمة في ماهية التاريخ والتعامل معه في مدة تمتد اكثرمن 400 سنة. ان تاريخ العالم هو مقاولة مركزية وموضوعه هو الرجل والمرأة الاوروبية لأنها تمثل السرديات الكبرى والحضارة نفسها. في نفس الوقت، الشعوب الاخرى بشكل جماعي تسرد بانها تمثل عامل شبه انساني دون تاريخ وثقافة وامتداد بعصور ذات نهضة وتقدم. يتم تمييز التاريخ من خلال ما يحدث و ما يراه الامريكيون والأوروبيون مهما وان المعاناة لها معنى عندما تلامس الانسان الأعلى ومتحض ولكن لا تسرد عندما تلامس من يعتبر دون البشر.
في قمة الاسلام فوبيا الأوروبية، المحترم جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني 2001- 2006 في عهد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، أصر على تمييز الوقت فيما يتعلق بالحادي عشر من سبتمبر ويؤكد التاريخ كالحدث الأهم في هذا القرن الذي يجب على الحضور تمييزه في الفترة الحالية. وكان الجمهور في القمة يغلب عليه المسلمون، والجلسة الافتتاحية أقيمت في المكتبة الوطنية الجديدة حيث تحدث السيد سترو. هذا الموقع مكان مميز في تاريخ أوروبا حيث تم حرق 2 مليون مجلدا وكتابا استهدفت عمدا من قبل الصرب كعمل من أعمال الإبادة الثقافية والفكرية الموجهة إلى التراث الجماعي للسكان المسلمين البوسنيين. غاب عن ذاكرة سترو هو أن الحضور في الغرفة سافروا وقبلوا الدعوة الى المؤتمر لأنه كان في سراييفو وفي ذكرى وتضامن مع الشعب الذي تميز التاريخ به وهو يخضع لمحو مستمر من الوعي الأوروبي وحتى في بناية تشهد على هذه الابادة.
على وجه التحديد، كان المحو هو ما شهدناه من السيد سترو في القمة. ومما زاد الطين بلة ان السيد سترو طالب واصر من على المسرح أن فقهاء المسلمين يجب عليهم إصدار الفتاوى والتحدث علنا ضد داعش مع الافتراض الأساسي إما أنهم صامتون أوانهم جميعا داعمون ومسؤولون لما يفعله الارهابيين.
أثناء فترة الأسئلة والأجوبة، لقد حرصت على تحدي هذه المهمة الجماعية من المسؤولية وبالتأكيد انها لا أساس لها وأن فقهاء المسلمين صامتون مقالة جاهلة و أنا ذكرت أنني كنت طرفا في استجابة جماعية من قبل علماء المسلمين موجهة في دحض ادعاءات داعش. علاوة على ذلك، وأشرت إلى أن كل جماعة إسلامية في أي مستوى من المكانة في جميع أنحاء العالم اصدرت بيانا – إن لم تكن متعددة منها – ردا على اجرام داعش والأعمال الإرهابية. واخيرا، وضعت السؤال إلى السيد سترو لماذا يعتقد أن المسلمين، كمجموعة، 1.4 مليون منهم، يجب أن يكونوا مسؤولين عن داعش وليس بوش، بلير نفسه لغزو العراق وتهيئة الظروف التي أدت لهذا المشروع الإرهابي. جواب السيد سترو على السؤال لم يكن وشيكا وانه تحول بسرعة من عدم وجود فتاوى إلى إلقاء اللوم على الناس على انهم حائرين حول ما يجب القيام به.
بينما ارتباك الناس ليس فريدا من نوعه للمسلمين، اعتبرها السيد سترو كسبب لظهور داعش القاسية الشريرة.
وعلاوة على ذلك، رفض السيد سترو أن يعترف بأي مسؤولية بخصوص العرض المرعب المستمر في العراق. على خشبة المسرح، تقاسم الجلسة مع السيد سترو مهدي حسن من قناة الجزيرة الإنجليزية، الذي ضغط عليه بالسؤال وبإن بلير نفسه قد قبل بالمسؤولية الجزئية فيما يحدث في العراق واذا كان سيفعل الشيء نفسه، ولكن دون جدوى. ان قمة الاسلام فوبيا الاوروبية كانت لحظة تمييز وعدم تمييز للتاريخ في البوسنة وهو الحدث الذي كان يجب أن يميز وكتابته مرة أخرى في التاريخ المعاصر – السرد المحلي للإبادة الجماعية البوسنية – انتهى بها المطاف في المحو المتفاقم ونقل المسؤولية. لا يعني أن كل العروض عانت من نفس الخطأ. على العكس من ذلك، بعض الأوراق الرائعة والمتحدثين عرضت دراسة تفصيلية لظاهرة الإسلام وفوبيا على الصعيدين الأوروبي والنظري. ولكن الافتتاحية وبعض أجزاء من القمة خلق تأطير إشكالي واهدر حاجة ماسة إلى توسيع التعامل مع التاريخ.
ان الإبادة الجماعية البوسنية هي مثال معاصر بارز من عواقب بعيدة المدى من الإسلام فوبيا. تقدم الإبادة الجماعية البوسنية مثالا لما يحدث عند عملية التجريد من الإنسانية التي تم توظيفها في انشاء حركة وحماسة وطنية محلية ودعوة الى قومية مرتبطة بالتمييز الديني. معسكرات الموت، وأعمال الاغتصاب الجماعي والتطهير العرقي والإبادة الجماعية بدأت مع بناء سرد قومي جديد عنصري ومن ثم تم تأكيده من خلال اعمال التطهير العرقي. عملية السرد عن المسلمين في أوروبا وأمريكا يجب ان ترفع الإنذارات لجميع الأطراف المعنية، والتجربة البوسنية هو الدرس المناسب الذي يجب ان يسرد ويدرّس حتى نستطيع ان نقول “أبدا مرة أخرى” ان نشاهد إبادة جماعية ونحن صامتون.