يكثر النقاش في هذه الأيام عن حاضر المسلمين ومستقبلهم ﻻ في أمريكا فحسب بل ﻓﻲ الغرب كله ﻓﻀﻼ ﻋﻣﺎ ﻳﺣﻮﻢ في عقر دار الإسلام. فمن المقلق عند البعض الظن ﺒﺄن المسلمين يشكل خطرا داخليا وطابورا خامسا، وكذا التحديات المرتبطة ﺒسياسات الاندماج لأقلية دينية وعرقية تشمل نسبة لا بأس بها من المهاجرين وممن هم حدﻳﺜﻮ العهد بالإسلام. وﺘﻐﺎﻀﻳﺎ ﻋﻥ طموحات جالية متعددة الجنسيات والأفكار والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية تحاول ﺇيجاد مكان لها في مجتمع بدأ يتخذ مواقف عنصرية ووضع حواجز قانونية وسياسية أمام هذه الجالية بأطيافها المختلفة. فالمراقب للأحوال في أمريكا قد يتساءل عن مستقبل الإسلام والمسلمين في هذه البلاد وعن ﺇمكانية النجاح في مواجهة التحديات الحقيقية منها والمفتعلة!
من عمق هذه النقاشات ومن ضمن خطط وأطروحات التعامل مع الواقع بمختلف ﺃلوانه ولدت كلية الزيتونة، المشروع التعليمي الأول من نوعه في أمريكا: الذي يفتح أبوابه للفوج الأول من الطلاب في خريف عام ٢٠١٠ في مدينة بيركلي العريقة. ومع أن المسلمين في هذه البلاد حاولوا في الماضي ﺇنشاء كليات وجامعات مستقلة إلا أن محاولاتهم كلها باءت بالفشل، وبالتحديد لم يكن معترفا بها ولم تكن معتمدة من أي مؤسسة أكاديمية في أمريكا أو خارجها. الزيتونة تمثل قفزة نوعية للجالية الإسلامية إذ أنها ﺃنشئت على أساس كونها أول كلية إسلامية خاصة معترفٍ بها ومعتمدة من قبل المؤسسات الأكاديمية الأمريكية وبالأخص (WASC)، أكبر مؤسسة للمصادقة والاعتراف الأكاديمي في أمريكا.
تتكون الجالية الإسلامية في ﺃمريكا في الوقت الحاضر من ٣-١٠ ملاﻳين نسمة منحدرﻳن من أصول مختلفة وجنسيات وثقافات متعددة وقد شهدت هذه الجالية نموا وتكاثرا ليس له مثيل في التاريخ القديم والحديث ففي أقل من 30 عاما شهدت هذه البلاد تضاعف عدد المسلمين من عشرات اﻵلاﻒ إلى بضعة ملايين ومن مساجد تعد على الأيدي في المدن الكبيرة إلى أكثر من ٢٢٠٠ جامع ومسجد وجمعية طلابية في كل جامعة وكلية في أمريكا بالإضافة إلى ٤٥٠ مدرسة تخدم حاجات الجالية. ولكن الجالية تفتقر إلى الكلية والجامعة المعترف بها التي إن نجحت الزيتونة في ترسيخها أمكن لها تأصيل وجود الجالية الإسلامية في هذه البلاد وﻋﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻐﺮﺍﺮ تخرج الأساتذة المختصين في التدريس للجيل القادم والعاملين في المجال الخيري بالإضافة إلي الإسهام بشكل فعال بتثقيف عامة المسلمين وخاصتهم بمبادئ الإسلام وتعاليمه السمحة في كل مجال ﻤﻥ مجالات الحياة فالمحامي المسلم يتعامل بالمثل الأخلاقية العليا لأن إسلامه يفرض عليه هذا السلوك وكذلك الطبيب والمحاسب وسائق السيارة في المطار ومدير الشركة والمطعم كلهم لهم دور وارتباط وثقل في منظور كلية الزيتونة ولأن فاقد الشيء لا يعطيه ﻓﻳﺠﺏ أن نعي ما عندنا ونعض عليه بالنواجذ ونربي أبناءنا وبناتنا وأزواجنا وزوجاتنا على تعاليم الإسلام ومكارم الأخلاق.
كلية الزيتونة هي وليدة المجتمع الأمريكي المسلم بأطيافه المختلفة وجنسياته المتعددة وتاريخه المتشابك مع التجربة الأمريكية ذاتها وتطلعاته المستقبلية والحالية في ذات الوقت. إن مؤسسي الزيتونة، الشيخ حمزة يوسف والإمام زيد شاكر والدكتور كاتب هذا المقال هم ممن عاصر وتفاعل مع تاريخ الإسلام والمسلمين الحديث في أمريكا وأيضا في العالم الإسلامي. ففكرة الزيتونة هي عندهم استجابة وتطوع لمواجهة التحديات المحدقة بالجالية الإسلامية في أمريكا. ومع أن الجالية ذات حجم لا يستخف به فإنها حتى الآن تفتقر إلى المؤسسة الأكاديمية على المستوى الجامعي وتفتقر إلى مركز ﺃبحاث ودراسات ﻤﺒﻨﻳة على الأسس العلمية الصحيحة وﻻ يتوفر لها الدعم المالي اللازم لتحمل مثل هذا المشروع. ولذلك فدعم كلية الزيتونة بكل ما لدينا إنما هو جزء لا يتجزأ من ترسيخ وتعميق جذور الإسلام في هذه البلاد.
إن هذه الجالية بحجمها إن قورنت ببعض الدول الإسلامية لأمكن لها أن تفوقها حجما وزخما وﺇمكانيات علمية ومالية وﺇدارية إلا ﺃنها لا تزال رهينة تطلعات سلبية ومخططات استزرعت من خبرة ومجتمع لا يمت بأي صلة إلى حاجات الجالية الإسلامية الأمريكية. وﺇﻟﻰ وقت قريب كان وما يزال همّ الجالية منصبًا على الحفاظ على الهوية أو عند البعض تكوين الهوية الإسلامية في محيط اعتبره البعض معاديا ﺇن لم يطلق عليه الكفر دون تحليل أو وعي إلى دقائق الأمور والفرق بين دار الدعوة ودار الكفر شاسع. كانت نتيجة هذا الاهتمام والهم إنشاء مساجد ذات نمط ثقافي محدود ومرتبط بالأساس بخلفية المجموعة المؤسسة لتلك المساجد سواء كانت في خلفيتها عربية باكستانية أو إفريقية أمريكية. ومعظم الجوامع الكبيرة ألحق بها فيما بعد مدارس ابتدائية وﺇعدادية وما زالت المدارس الثانوية نادرة إن لم تكن مفقودة في معظم المناطق. كلية الزيتونة في هذا الوقت إنما تعبر عن نضوج جزئيات في هذه الجالية التي يمكن تأريخها إلى منتصف التسعينيات ﻭﺣﻳﻥ ﺬﺍﻚ أخذت ﺘشكل مؤسسات خيرية مختصة منها ما هو ذو طابع خيري بحت ومنها ما اهتم بإشراك المسلمين في المجتمع المدني ﻤﻥ خلال عمل إعلامي وتثقيفي أو سياسي. ولكن إذا أمعنا النظر في مؤسسات الجالية من مساجد ومدارس وجمعيات خيرية واجتماعية وإعلامية وسياسية نجدها تفتقر إلى الكوادر الملمة بمبادئ الإسلام وتعاليمه على مستوى يرشحها لقيادة الجالية وبنفس الوقت الدخول في حوارحضاري بالتي هي أحسن مع أفراد وشرائح وطوائف المجتمع الأمريكي المعادي منه والمسالم في نفس الوقت.
وبكل صراحة فكلية الزيتونة ستخدم الجالية الإسلامية وغيرها في هذه البلاد. فأمريكا كبلد والجالية الإسلامية أيضا تتألف من أعراق وجنسيات وﺜقافات ولغات مختلفة إنه مجتمع أشبه بهيئة الأمم المتحدة ولجنتها العامة وفي كل مسجد صغيرا كان أو كبيرا فإن الأصل هو التعددية حتى ﺇﻨﻪ بوسعنا ﺃن ﻨقول إنه تعدﺪﻱ كالحج والعمرة في مكة فالاختلاط والتعامل بين مجموعات من شتى بقاع الأرض إنما هو حدث يكاد يكون يوميا وهو في معظم المساجد والمؤسسات حدث طبيعي. هذه التعددية والاختلاط العرقي هو من أقوى عمد وأركان الإسلام في هذه البلاد ولكن في نفس الوقت يشكل أكبر تحد في كيفية بناء مجتمع يسمح بالخلاف ويربي نموذج التعددية الفكرية ولكن في نفس الوقت يكون بناء يشد بعضه بعضا.
إن كلية الزيتونة تريد أن تقدم نموذﺟﺎ تعليميا يناسب المجتمع والظروف الخاصة به وإنشاء جيل قادر على التعامل بسلاسة مع خصوصيات هذا المجتمع. فعلى سبيل المثال حتى هذا الوقت معظم أئمة المساجد هم ممن درس وتخرج من مؤسسات وجامعات إسلامية موجودة في العالم الإسلامي والأكثرية لا تجيد أو على الأحرى لا تتكلم اللغة الإنكليزية أساسا مما أفقدها مصداقية مع الجيل الجديد وليد هذه البلاد وأيضا جعلها متقوقعة في مساجد المهاجرين دون ارتباط وتفاعل مع المجتمع الأمريكي المسالم منه والمعادي.
فالقائمون على كلية الزيتونة يطمحون في تخريج أﺌمة ﻠﻳﺳﻭﺍ ملمين بالنصوص الإسلامية والمتون الفقهية وعلوم القرآن والحديث فحسب ولكن تريد ﻤﻨﻬم أن يكونوا راسخين في معرفتهم بخصوصيات المجتمع الأمريكي واحتياﺟﺎته. إن التحدي الأساسي لمناهج الزيتونة هو بالتحديد الرﻘﻲ برسالة الإسلام في مجتمع متعدد الجنسيات والثقافات والأبعاد الفكرية والعقائدية في فترة لا يخفى على القارئ القريب والبعيد تتشابك بها السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية مع دول ومجتمعات إسلامية تلك السياسة التي قد تغيم الرؤيا المستقبلية عند البعض وقد تؤثر على طبيعة الحلول المقدمة لمشاكل الجالية فتصبح رهينة التفاعل والانفعال مع واقع المسلمين المر والمعقد. فكلية الزيتونة تطرح وتؤمن يقينا بالإسلام الوسطي البعيد عن الغلو والتشدد ليس لأنه علم وشعار الوقت الحاضر ووليد التشابك والإشكالات السياسية الحاضرة إنما لأننا ذوو إيمان وعقيدة راسخة بصحة هذا النهج المرتبط بسند غير منقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وﺃتباع التابعين وجل علماء هذه الأمة إلى هذا اليوم.
فكلية الزيتونة والمشرﻓﻭن عليها وأساتذتها وكل من يساهم في نجاحها يعملون ليلا ونهارا على تطوير المناهج التعليمية المرتبطة ارتباطا حيويا بمصادر التشريع الإسلامي ﺍﻠﻤﻤتد على طول أربعة عشر قرنا تقليدا واقتداء واتباعا وفي نفس الوقت تنقيحا وتجديدا وربطا بين الماضي المشرف والحاضر المعقد.
فالشيخ حمزة والإمام زيد والدكتور حاتم يطمحوﻥ في بناء جسر بين حضارة العالم الإسلامي بعمقها وزخمها وصلاتها وامتدادها التاريخي والحاضر وبين الحضارة الغربية بثوبها الأمريكي وعمقها التاريخي وزخمها في القرون الماضية والحاضرة أيضا. هذا المشروع الطيب ينطوي على تطوير منهج معتمد في الأساس والأركان على مصداقية إسلامية ومرتبط بثقافة وتعددية أمريكا واحتياجات الجالية الإسلامية فيها. فالإسلام في أمريكا قديم قدم البلد ذاته مع أن البعض يتناسى هذه الحقيقة الثابتة إلا أن الزيتونة واعية ﺒﺃن المناهج التعليمية يجب أن تربط النصوص الإسلامية بواقع وحاضر المجتمع فالطلبة في البرنامج سيدرسون الفقه بأطيافه والتاريخ الإسلامي بعمقه وامتداده والقرآن والحديث ولكن في نفس الوقت سيأخذون كما لا ﺒﺄس به يتمثل في صفوف تشمل العلوم السياسية والاقتصاد واللغة الإنكليزية والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس ناهيك عن شروط ﻟﻟتخرج ترتبط بالتطوع والخدمة في المؤسسات الخيرية وجمعيات المجتمع المدني. والزيتونة تتطلع إلى تأصيل الإسلام والمسلمين في المجتمع الأمريكي ﻣﻥ خلال برنامج أكاديمي يكاد يكون فريدا في نوعه في العالم الغربي والإسلامي وهو قائم على وجود قيم ومبادئ أخلاقية مشتركة يمكن أن نبني عليها التعاون وتقديم أفضل ما لدينا لخدمة الإنسانية كافة.
إن الزيتونة تريد أن تخرج أفواجا من الطلبة فعالة في المجتمع الأمريكي بكل شرائحه ومقدمة الأفكار والنصائح من باب “الدين النصيحة” في كل مجال وعند كل فرصة. فالزيتونة تقول نحن أمريكيون ومسلمون وانتماؤنا إلى أمريكا لا يعني قبول سياستها الخارجية والداخلية برمتها وعدم نقدها فكريا عند خروجها عن المبادئ والقيم الأخلاقية المتعارف عليها وانتماؤنا إلى الإسلام لا يعني إننا نصارع جيراننا من الجاليات الأمريكية الأخرى الذين يعتنقون أديانا وأفكارا تختلف معنا إنما نكون أهل خير ودعوة وميثاق ولنا مثل الذى علينا بالمعروف.
فالإسلام باق في هذه البلاد والمسلمون باقون في هذه البلاد ولكن وجودهم سيتطور في السنوات القادمة إن شاء الله مع افتتاح كلية الزيتونة والبدء في تثقيف جيل مسلم واع بمبادئ الإسلام ليس فقط في المساجد ولكن في كل مجال من مجالات الحياة من خلال محام وطبيب ومحاسب ونجار وحداد يتعامل في مهنته من منظور الإسلام وقيمه الأخلاقية العليا وثقافة مرتبطة بالمسؤولية تجاه الله أولا ثم ﺘﺟﺎﻩ عباد الله أجمعين.