النكبة: رواية حكاية الفلسطينيين ”الغير الموجودين” في التاريخ!

كنت ولا زلت في دراساتي الاكاديمية والنشاط السياسي قائم بجد على مشروع كتابة مستمرة تعتزم تسليط الضوء على الروايات الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى الوقت الحاضر. رواية الحرمان من فلسطين، الوطن المستعمر الجريح الذي ما زال ينزف شلالا من الدماء، تمس كل عائلة فلسطينية بما فيها عائلتي. خلال نكبة 1948 وفترة الحرب، استشهد اثنين من أفراد العائلة، جودت علي رضا محمد بازيان وعمران علي رضا محمد بازيان، في حين قريب آخر، رضا علي محمد بازيان، تعرض للتعذيب من قبل البريطانيين و وصل الى الأسرة ينزف فاقدا الوعي في غيبوبة وتوفي في منزله بعد بضعة أيام في عام 1946. رواية ال بازيان ما هي إلا جزء صغير في صورة كبيرة تتضمن فوزي أسعد بازيان وخالد بازيان البالغ من العمر 14 عاما اللذان استشهدا في عام 1967 و 2000، على التوالي. وتشمل رواية عائلة بازيان عميد الأسرى، علاء بازيان، رجل أعمى ولكن وهبه الله رؤية خارقة من أجل الحرية، والمقاومة وان يكون الشخصية البارزة في حركة مطالبة حرية وحقوق الأسرى.

من جهة عائلة والدتي، ذهب عمي يوسف في عداد المفقودين خلال الحرب وحتى هذا اليوم لا أحد يعرف ماذا حدث له. كل عائلة فلسطينية لديها واحد أو أكثر من أعضائها قتلوا، جرحوا وسجنوا أو طردوا لأول مرة من قبل البريطانيين ثم يليها الاحتلال الصهيوني خلال نكبة 1947-1948 وما بعد حتى وقتنا هذا.

بشكل يومي، أتلقى مئات الطلبات عبر البريد الإلكتروني، الفيسبوك وتويتر لتسليط الضوء على قضية، قضية مهمة أو حكاية مسكوت عنها التي يمكن أن تستفيد من خلال إضافة صوت واحد او أكثر. صوت في حاجة ماسة له. ان تكون فلسطينيا في المهجر وأكاديميا يعمل على فلسطين وتاريخها المؤلم يضيف بعدا شخصيا للطلبات القادمة من الناس الذين يعيشون تحت الاحتلال. كيفية رواية قصص هذا العدد الكبير من الضحايا في الماضي والحاضر؟ كيف يمكن للمرء أن يسجل الماضي عندما لاتزال آلة الموت الإسرائيلية الحالية تضيف المزيد من الاجساد وضحايا لا تعد ولا تحصى يوميا؟

ان نروي حكاية فلسطين يعني الكتابة مرة اخرى عن اسماء في التاريخ ، وجوه وقصص كل اولئك الذين قتلوا، المشوهين والجرحى والمحرومين كي تجلب إسرائيل إلى حيز الوجود ولكن الثمن هو مسح فلسطين والفسطينين من صفحات التاريخ. أسماء فلسطينيين لم يتم تسجيلهم الذين قتلوا والمزيد من الأرقام المذكورة الذين مروا وكأنه لا يوجد عندهم أسر وأمهات وآباء وإخوة وأخوات وأبناء العمومة أو الجيران الذين يتذكرون أفراحهم وأحزانهم. كانت ولازالت تتراكم والابدان والاجساد الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين وخطة أوروبا لحل “مسشكلتها اليهودية” من خلال إنشاء مشكلة فلسطينية عربية.

و لقد واجه الفلسطينيين محو منظم، متعدد الطبقات ومنهجي على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. محليا، انهم يعانون من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي المباشر مع محاولات يومية في السلب والتي لا تنتهي من العنف المنهج والمنظم. ندبات هذا العنف المتمر محفورة و واضحة على وجوه الناس الذين يتحدثون عن المعاناة عبر الأجيال. هيئات الفلسطينين الشابة أصبحت من خلال هذا الاستعمارمصابة بالشيخوخة نتيجة الاختناق من الاحتلال وآلة العنف المسلطة عليه، مع انتزاع ألاراضي، ونقاط التفتيش والمستوطنين الفاشيين الذين يدوسون على كل شيء له معني بما في ذلك الإنسان نفسه / نفسها. ولا تزال النكبة تتبلور يوميا في بناء جدار الفصل العنصري الذي يفصل بين العائلات والقرى، ويلوث الحواس مع قبح عميق لا يوجد له نظير معاصر على وجه الأرض.

بعد أكثر إيلاما للفلسطينيين هو تشويه لا حدود له للأرض منذ عام 1948 ومحو الماضي و استبداله ببنية العنف ودمار المعنى الذي بني صهيونيا و “روحيا” على عبادة السلطة والقوة لانتاج اليهودي الحديث في أوروبا أولا ومن ثم تطبيقه على ارض الواقع في فلسطين. ومما يزيد الطين بلة في ذكرى النكبة هو السلطة الفلسطينية التي تعتبر بمثابة الوجه واليدين للاستعنار الممنهج التي تحمي المستوطنين المستعمرين بينما تعاقب مرة أخرى سكانها الفلسطينين. كيف نروي قصص متعددة من ضياع وبيع حقوق الشعب من بعيد الزمن الى وقتنا هذا من اجل بعض الامتيازات لكبار الشخصيات او حق الجلوس على المفصل من قبل الاستعمار؟

وذكرى النكبة الفلسطينية تمر مرة أخرى باستمرار العنف المنظم ضد الفلسطينيين من قبل الدولة الإسرائيلية وبدعم وصمتا عربي ودولي. في الصحافة الغربية، والعرف المتبع هنا هو أن ينظر الصحافي الغربي إلى الأحداث في فلسطين من خلال عدسة إسرائيلية. وفي نفس الوقت، الصحافة الغربية تمحو الروايات الفلسطينية في الماضي والحاضر ومن ناحية أخرى تؤنس وتشيد بالعنف الصهيوني وتير اليه بأنه دفاع عن النفس . الفلسطيني يقتل أو يهاجم بعنف يوميا من قبل آلة المار الاسرائيلية ولكن الصحافة الغربية لا تجد أبدا الزمان أو المكان لرواية قصتهم وإعطائها اسم، وجه وصورة كاملة لمن هم كشخص. الوفيات والمعاناة الفلسطينية تروى بأعداد بينما يتم إدخال جلاديها كناس ذوي مشاعر وأسر وتاريخ مهم.

على المستوى الإقليمي، حولت النكبة الفلسطينيين إلى لاجئين وأدوات لتصفية الحسابات بين مختلف الدول والقادة العرب. ونتيجة لذلك، كلما كان بلدين عربيين في نزاع، أصبح الفلسطينيون رقة مساومة للضغط لمن تكون له اليد العليا وحاولة إدخال الحس القومي عن طريق خصخصة القضية الفلسطينية لحسابات شخصية ضيقة لا تتعدى الحفاظ على كرسي للسلطة مخروق الاسفل. أيضا، تحولت نكبة الفلسطينيين الى استمرارالحرمان من الجنسية وعرضة للدول التي قبلت طردهم أولا باعتباره شرطا مسبقا لكسب كراسي جمهورياتهم الاستعمارية الخاصة. اصبح موقع النكبة الفلسطينية لعبة إقليمية لرفع، حقر وحزمة في جميع أنواع المكائد للحرب الباردة، الملكيات مقابل القومية والتنافس بين السنة والشيعة، التلاعب في سوق النفط والحرب على الإرهاب. كيف يروى عنف المكائد الإقليمية التي تجعل من اللاجئين الفلسطينيين كأداة لحرفة الدولة؟

على الصعيد العالمي، النكبة تعني أن الفلسطينيين أصبحوا تحت وصاية المجتمع الدولي. والأهم من ذلك أن المجتمع الدولي كمجموعة يحتفل بالصهيونية وقيام دولة إسرائيل باعتبارها التكفير عن معاداة السامية التاريخية الخاصة بهم والموت الذي انزلوه على يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. النكبة تعني أن الفلسطينيين اصبحوا جزء راسخا في اجتماعات الأمم المتحدة ومشهد لا ينتهي أبدا لبلادة “الخبراء” السياسيون لتقديم أفكار حول كيفية حل الغير القابل للحل. كيفية حل المعضلة الفلسطينية في مؤسسة وبين دول الأعضاء الذين يحتفلون بسلب فلسطين، وتوفير المساعدات الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل، والتعاون في استهداف الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم ويلقى الفيتو لمنع أي تغيير من الحدوث؟ كيف تروي الفلسطيني وهو الجسر لوظائف وتخصصات و اجتمعات دولية هدفها حماية إسرائيل بوسيلة تلهية الفلسطينين في درب مسدود الباب مفتاحه بيد المستعمر ذاته.

رواية فلسطين هو أمر اليوم، وأنه يتعين الاضطلاع بها تحت أقسى الظروف. كيف نروي النكبة ونحن ننزف شلال دماء في أفغانستان، سوريا، العراق، ليبيا، مصر، ميانمار، اليمن والصومال. كلها اراض مشتعلة وتواجه مستويات مختلفة من الموت والدمار؟

بالمناقشة ، يمكن أن ينظر إلى النكبة على أنها مسألة ثانوية في وجه الدمار الجاري حاليا في سوريا والعراق، والتي هي ذات أبعاد توراتية. ومع ذلك، ينبغي أن لا يحجب مستوى الدمار طبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وعلاقته بالاستثمار في الصراعات الإقليمية المستمرة.

التحالف بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر في إطار استراتيجية الاحتواء الإقليمي التي جعلت سوريا والعراق التضاريس المقبولة لتسوية الحسابات الاستراتيجية هو جزء لا يتجزء من الفكر والمنظومة الاستعمارية للمنطقة و ورقة مساومة ليتم تقديم فلسطين والفلسطينيين للحفاظ على مقاعد السلطة في مختلف العواصم وإسرائيل في مقعد السائق لتأمين عمليات السطوعلى ألاراضي وإمكانية التسلط على موارد المنطقة الاقتصادية. النكبة ليست حدثا منفردا وقع في الماضي وكان لدى الفلسطينيين فترة طويلة من الوقت للتعافي منه. في الواقع، النكبة، للفلسطينيين، هو الملحمة التي لا تنتهي التي لا تزال تشكل حياتهم اليومية. قصص السلب مستمرة وعبر الأجيال. النكبة موجودة في الطبيعة منذ الخسائر والدمار الذي لحق الفلسطينيين في عام 1948 وتليها برامج خلع مستمرة، استهداف وحركة لاجئين في الأماكن القريبة والبعيدة. ولقد بنيت اسرائيل فوق مقابر الفلسطينيين وسرقة بالجملة للمدن والقرى والبساتين الفلسطينية. ما بدأ في عام نكبة 1948 يستمر حتى اليوم في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والاحتلال الخانق الذي لا نهاية له في الأفق.

وتتشابك حكاية كل عائلة فلسطينية مع نكبة 1948، نكسة 1967 ، وطرد من الأردن1970 ، وتهجير بعد تهجير في الثمانينيات عقب الحروب المتعددة في لبنان والمنفى الجديد في تونس، و الانتفاضة الاولى و الثانية، 1991-1992 إزالة من الكويت، طرد من العراق وتحت وصاية الولايات المتحدة و قوات الاحتلال على الحدود مع الاردن والحصار في مخيم اليرموك والمخيمات في سوريا، والاعتداءات اليومية على غزة في شوارع مدن الضفة الغربية. النكبة تطل برأسها القبيح في كل مرة يتم إيقاف فلسطيني في الحدود و المطارات ليطالب ويستجوب باستمرار عن العنف والإرهاب ولماذا هم يسافرون في المقام الأول، كما لو أنها جريمة. كيف تشعر عندما يطلب منك تبرير وجودك والبراءة للمشروع الإجرامي الذي انت ارتكبته الجريمة في المقام الأول بانك تصرعلى انك موجود بحق وانك فلسطيني وتطالب بحقك وترفض ان تمحى من التاريخ كي يدخل المستعمر الصهيوني تاريخه المزيف بدلا عنك؟

النكبة هي الرصاصة الصهيونية التاريخية التي ارسخت عميقا في أجساد وعقول الفلسطينيين لتقل لهم انكم غير موجودين وان علاقتهم بارضهم علاقة غير اصيلة، ومن هذا المنطلق يحاول المستعمر ان يواصل العذاب اليومي ليأخذ شكل نفي الشعوبية الفلسطينية، و مسح التاريخ، و منع الاتصال والارتباط بالأرض، و حتى إمكانية القدرة على رواية فلسطين نفسها. رواية النكبة هي الكتابة عن فلسطين وشعبها مرة أخرى و الرجوع الى التاريخ، مع التأكيد على أهميتها إلى الماضي والحاضر والمستقبل. لا تزال النكبة قائمة في الإذلال اليومي الذي يعاني منه الفلسطينيون داخل وخارج فلسطين. ولا تزال النكبة في بناء جدار الفصل العنصري الذي تفصل العائلات والقرى، ويلوث الحواس مع القبح الأكثر عمقا الذي لا يوجد له نظير معاصر على وجه الأرض. وأخيرا، رواية فلسطين ليست كاملة دون الآلاف من الفلسطينيين الذين يقبعون في السجون الإسرائيلية والعربية والعالم لا لسبب سوى المطالبة بالحرية والكرامة. بالتأكيد، ربما يمكن لسجن ان يسجن الجسم ولكنه لا يمكن أبدا أن يقبض على عقل شعب حر! فلسطين كانت ولا تزال رمز الحرية ومهم مر من الزمن على التشريد والظلم والعنف لكنن نقول نحن هنا وسنبقى هنا وعائدون ان شاء الله قريبا رغم انف من ابى!