القانون والدين والفوضى في الدول العربية

يُعد القانون في البلدان العربية المعاصرة مزيجاً من النظم الأساسية، والقوانين، واللوائح التي اعتمدت على مدى الأعوام المائة إلى المائة والخمسين الماضية، بصدد تشكيل مشروع ا القومية الحديثة. وللحديث بشكل أكثر دقة، إن الإسلام أو الشريعة هما المصدران الأساسيان اللذان تم ذكرهما كثيراً في المقالات القليلة الأولى في معظم المدونات القانونية والقوانين الأساسية في مختلف أنحاء المنطقة، ولكن لا تدع هذه الخدع المضللة والبرّاقة بأن تحجب عينيك عن رؤية الأساس البنيوي لكل دولة؛ لأن الدول القومية العلمانية الحديثة تعمل بمقتضى المظهر الإسلامي الزائف وليس الحقيقي. لقد جرت صياغة الدولة القومية الحديثة في ظل رقابة يقظة، أو بعبارة أدق، تحت توجيه القوى الأوروبية المباشر في الماضي، وكذلك تحت الهيمنة التسلطية الأمريكية في الوقت الراهن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: “ما النواحي التي تتخذ الطابع الإسلامي في الدول القومية العربية الحديثة”؟، إذا ما تم التيقن من سؤال كهذا، فإن الإجابة عليه لا بد من أن تكون بسيطة.

لقد ولد القانون من رحم الظروف الاجتماعية، وذلك يعني في الدول القومية العربية، أنه تم تشكيل المدونات القانونية والقوانين الأساسية تحت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية الاستعمارية، بحيث لا يمكن للمرء الاقتراب من المدونات القانونية دون دراسة العملية التي أدت الى نشوئها في المقام الأول، والمصالح التي تخدمها في المقام الثاني. تتألف هذه المدونات القانونية، في الدول القومية العربية، من مزيجاً من الترجمات المباشرة من اللغة الفرنسية والألمانية والبريطانية والسويسرية، بالإضافة الى ترجمات الأنظمة الأساسية الأمريكية المتزايدة بصورة مستمرة، والمنعزلة عن الظروف الاجتماعية المباشرة والمعاصرة التي تعيشها الدول العربية المعنية. وبناء على ذلك، فإن هذا الواقع الأساسي يتطلب منا الى التعمق أكثر في الأسباب التي دفعت الى هذا التبني الشامل.

إن السبب الدافع لهذا التبني كان عبارة عن نظرية أساسية أثارت المشاكل حول الإسلام نفسه، وافترضت افتقاره الى القدرات، لغرض توجيه وقيادة الدول القومية الحديثة. في القرن التاسع عشر، كانت أوروبا النموذج المعروض لبناء هذه الدولة القومية الحديثة. لقد كان ذلك النموذج بمثابة وسيلة مريحة جداً لتسريع عجلة السيطرة على المنطقة من قبل ذات القوى الأوروبية التي كانت تعرض مساعدتها للوصول بالاندفاع الاقليمي نحو الحداثة والدولة القومية. إذا كانت حداثة الدولة القومية الأوروبية هو المسعى الذي تطمح اليه الدول العربية، فإن المبادئ القانونية وعلم المعرفة الإسلامي هما العائقان اللذان كان من الواجب التخلص منهما، سواء في الميادين السياسية أو الاقتصادية.

لقد تبنت الدول القومية العربية الحديثة مشروع تشكيل الدولة الأوروبية الذي اقتضى وجود علاقة عدائية له مع الإسلام، الى جانب الأساس القانوني والمعرفي الذي يعمل على توعية المجتمع. وبنفس الطريقة التي احتاج بها التطور الأوروبي الى الانفصال عن الكنيسة وقطع علاقته العدائية معها، فإنه يجب على الدول القومية العربية الحديثة إعادة تمثيل التاريخ الأوروبي للانبثاق عن العصر المظلم للعالم الإسلامي. ومن المؤكد أن مفهوم العصر المظلم ليس له مدلولاً الا فيما يتصل بأوروبا، وخصوصية التجربة التاريخية مع الكنيسة بوصفها القوة الحاكمة في ذلك الوقت. إن إعادة تمثيل تاريخ أوروبا بما يتصل بالعصور المظلمة، بوصفه المذهب التأسيسي الذي يوجه الدول القومية العربية الحديثة، والذي يحدث تغييرات في بيئة ومجتمع لم يكن لهما تجارب مع الإسلام، ما هو الا تدليس فكري وعمل إجرامي يرتكب في حق المنطقة وشعبها.

والأهم من ذلك كله، تم تشكيل القانون في الدول القومية العربية الحديثة من أجل خدمة وحماية مزيجاً من الشخصيات الأوروبية وصفوة الشخصيات الذين يتم رعايتهم على الصعيد المحلي، وبالمقابل، تم وضع القانون ضد مصالح ورفاهية الأغلبية الساحقة من السكان. وبالتالي، حسب المعنى المتداول، فإن القانون والنظام اللذان كان من المفترض أن يكون دورهما حماية سلامة ورفاهية المجتمع، كانا حلقة الوصل المفقودة عند انشاء كل مشروع لأي دولة من الدول. والنخب من المواطنين الذين تم انتقائهم وتقليدهم مناصب في الدولة، قاموا بإجراء صفقات عبثية تخدم مصالحهم الضيقة مع مختلف القوى الأوروبية والأمريكية على حساب مجتمعاتهم.

لقد تم اختزال الدين أو الإسلام، في هذه الدول القومية العربية الحديثة، ليعمل بوصفه زي شعائري ديني لتمرير رسالة غياب السلطة والشرعية، ولكن في الوقت نفسه، تم افراغه من أي معنى ادراكي حقيقي. إن الدولة العربية، بكافة وظائفها، هي عبارة عن مشروع قبلي علماني مشوه أنشئ لصالح نخب صغيرة غالباً ما تكون عائلة أو قبيلة تستتزف الحياة المعيشية لكل مواطن عادي في المجتمع ككل. يُستخدم الإسلام في مثل هذه الدول القومية العربية كأداة حاكمة وسلاح جاثم لضبط وتنظيم المجتمع، وكوسيلة مادية مفرغة من الأخلاق والمضمون لغرض تزيين العري الأخلاقي المجازي بطريقة أخرى.

إن الأخبار اليومية المتعلقة بعدد أحكام عقوبات الإعدام الصادرة تُسخِّف القانون، وتسخر من أي شخص يدلي بهذه الأحكام عبر المؤسسات التي تهين الذكاء البشري مثل المحاكم القانونية. عندما يصبح الإعدام بمثابة الأداة الوحيدة للحكم، فإن القانون في هذه الدول يصبح أداة للفوضى. إن القانون، بشكله المنعزل والتقليدي، هو مصدراً للفوضى؛ لأن الخاضع للحكم ليس له رأياً أو دوراً في القوانين التي تحكمه في المقام الأول. إن فكرة المساءلة بموجب القانون مشروطة بحرية قبول المواطن للمدونة القانونية التي بموجبها يتم الحكم عليه في المحاكم القانونية.

إن الاسلام ما هو الا منهج حياة يشمل كل ما من شأنه أن يعزز الحياة اليومية للبشر، ويتم إرساء القوانين وحمايتها من خلاله. إن المرء يقبل بالقواعد واللوائح الإسلامية القانونية بسبب ايمانه الراسخ والعميق بأن تلك القوانين الأخلاقية تسعى نحو تحقيق العدالة في العالم. إن القانون، في الإطار المفاهيمي للإسلام، ما هو أداة لتحقيق السلام والعدل والتوازن في المجتمع. يتمثل المعيار القانوني في الإسلام في أن “المتهم بريء حتى تثبت ادانته”، ولا أحد فوق القانون، سواء كان حاكماً أو محكوماً، غنياً أم فقيراً، منتمياً لقبلية أو عابر سبيل، مثل الكثير من العمال الأجانب الكادحين خارج أوطانهم، وهؤلاء الذين يلتمسون اللجوء بسبب كثرة الكوارث التي فرضتها النخب في بلدانهم. إن الأزمة التي واجهتها الدول القومية العربية الحديثة ليست غياب القانون والنظام، بل القانون ذاته هو الذي يثير الفوضى والاضطراب؛ لأنه ليس عادلاً ولا يسعى نحو تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع.